فصل: فَصْلٌ: (دَرَجَاتُ الذَّوْقِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: [مَنْزِلَةُ الذَّوْقِ]:

وَمِنْهَا مَنْزِلَةُ الذَّوْقِ وَالذَّوْقُ مُبَاشَرَةُ الْحَاسَّةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ لِلْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِرِ. وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِحَاسَّةِ الْفَمِ فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ، بَلْ وَلَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} وقال: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} وقال تَعَالَى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} وقال: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}.
فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَمَعَ بَيْنَ الذَّوْقِ وَاللِّبَاسِ، لِيَدُلَّ عَلَى مُبَاشَرَةِ الْمَذُوقِ وَإِحَاطَتِهِ وَشُمُولِهِ. فَأَفَادَ الْإِخْبَارُ عَنْ إِذَاقَتِهِ: أَنَّهُ وَاقِعٌ مُبَاشَرٌ غَيْرُ مُنْتَظَرٍ. فَإِنَّ الْخَوْفَ قَدْ يُتَوَقَّعُ وَلَا يُبَاشَرُ، وَأَفَادَ الْإِخْبَارُ عَنْ لِبَاسِهِ: أَنَّهُ مُحِيطٌ شَامِلٌ كَاللِّبَاسِ لِلْبَدَنِ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا. وَبِمُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَسُولًا فَأَخْبَرَ: أَنَّ لِلْإِيمَانِ طَعْمًا، وَأَنَّ الْقَلْبَ يَذُوقُهُ كَمَا يَذُوقُ الْفَمُ طَعْمَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.
وَقَدْ عَبَّرَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ إِدْرَاكِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ، وَالْإِحْسَانِ، وَحُصُولِهِ لِلْقَلْبِ وَمُبَاشَرَتِهِ لَهُ: بِالذَّوْقِ تَارَةً، وَبِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ تَارَةً، وَبِوُجُودِ الْحَلَاوَةِ تَارَةً، كَمَا قَالَ ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ وَقَالَ ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ. وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ- بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ- كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ.
وَلَمَّا نَهَاهُمْ عَنِ الْوِصَالِ قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى وَفِي لَفْظٍ إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي وَفِي لَفْظٍ إِنَّ لِي مُطْعِمًا يُطْعِمُنِي، وَسَاقِيًا يَسْقِينِي.
وَقَدْ غَلُظَ حِجَابُ مَنْ ظَنَّ أَنَّ هَذَا طَعَامٌ وَشَرَابٌ حِسِّيٌّ لِلْفَمِ. وَلَوْ كَانَ كَمَا ظَنَّهُ هَذَا الظَّانُّ: لَمَا كَانَ صَائِمًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُوَاصِلًا. وَلَمَا صَحَّ جَوَابُهُ بِقَوْلِهِ إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ فَأَجَابَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. وَلَوْ كَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِفِيهِ الْكَرِيمِ حِسًّا، لَكَانَ الْجَوَابُ أَنْ يَقُولَ: وَأَنَا لَسْتُ أُوَاصِلُ أَيْضًا. فَلَمَّا أَقَرَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ إِنَّكَ تُوَاصِلُ عُلِمَ أَنَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُمْسِكُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَيَكْتَفِي بِذَلِكَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْعَالِي الرُّوحَانِيِّ، الَّذِي يُغْنِي عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْمُشْتَرَكِ الْحِسِّيِّ.
وَهَذَا الذَّوْقُ هُوَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ هِرَقْلُ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ، حَيْثُ قَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ، إِذَا خَالَطَتْ حَلَاوَتُهُ بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ.
فَاسْتَدَلَّ بِمَا يَحْصُلُ لِأَتْبَاعِهِ مِنْ ذَوْقِ الْإِيمَانِ- الَّذِي خَالَطَتْ بِشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ: لَمْ يَسْخَطْهُ ذَلِكَ الْقَلْبُ أَبَدًا- عَلَى أَنَّهُ دَعْوَةُ نُبُوَّةٍ وَرِسَالَةٍ، لَا دَعْوَى مُلْكٍ وَرِيَاسَةٍ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ ذَوْقَ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، أَمْرٌ يَجِدُهُ الْقَلْبُ. تَكُونُ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ كَنِسْبَةِ ذَوْقِ حَلَاوَةِ الطَّعَامِ إِلَى الْفَمِ، وَذَوْقِ حَلَاوَةِ الْجِمَاعِ إِلَى إِلْفَةِ النَّفْسِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ. وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ فَلِلْإِيمَانِ طَعْمٌ وَحَلَاوَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا ذَوْقٌ وَوَجْدٌ. وَلَا تَزُولُ الشُّبَهُ وَالشُّكُوكُ عَنِ الْقَلْبِ إِلَّا إِذَا وَصَلَ الْعَبْدُ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ. فَبَاشَرَ الْإِيمَانَ قَلْبُهُ حَقِيقَةَ الْمُبَاشَرَةِ. فَيَذُوقَ طَعْمَهُ وَيَجِدَ حَلَاوَتَهُ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

.فَصْلٌ: [بَابُ الذَّوْقِ]:

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: بَابُ الذَّوْقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَذَا ذِكْرٌ}.
فِي تَنْزِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الذَّوْقِ صُعُوبَةٌ. وَالَّذِي يَظْهَرُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الشَّيْخَ أَرَادَ: أَنَّ الذَّوْقَ مُقَدِّمَةُ الشَّرَابِ، كَمَا أَنَّ التَّذَكُّرَ مُقَدِّمَةُ الْمَعْرِفَةِ، وَمِنْهُ يَدْخُلُ إِلَى مَقَامِ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ. فَإِنَّهُ إِذَا تَذَكَّرَ أَبْصَرَ الْحَقِيقَةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} فَالتَّذَكُّرُ يُوجِبُ التَّبَصُّرُ، فَيَكُونُ لَهُ الْإِيمَانُ بَعْدَ التَّبَصُّرِ ذَوْقًا وَعِيَانًا.
وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ} فَالتَّذَكُّرُ بِهَذَا الذِّكْرِ، الَّذِي قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَشْهَدُ صَاحِبُهُ الْإِيمَانَ بِالْمَعَادِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ عِنْدَ لِقَائِهِ. فَيَصِيرُ إِيمَانُهُمْ بِذَلِكَ ذَوْقًا، لَا خَبَرًا مَحْضًا. لِأَنَّهُ نَشَأَ عَنْ تَذَكُّرِهِمْ بِذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَأَمُّلِهِمْ حَقَائِقَهُ وَأَسْرَارَهُ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْهُدَى وَالْبَيَانِ. فَالتَّذَكُّرُ سَبَبُ الذَّوْقِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [الذَّوْقُ أَبْقَى مِنَ الْوَجْدِ وَأَجْلَى مِنَ الْبَرْقِ]:

قَالَ: وَالذَّوْقُ: أَبْقَى مِنَ الْوَجْدِ، وَأَجْلَى مِنَ الْبَرْقِ.
يُرِيدُ بِهِ: أَنَّ مَنْزِلَةَ الذَّوْقِ أَثْبَتُ وَأَرْسَخُ مِنْ مَنْزِلَةِ الْوَجْدِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَثَرَ الذَّوْقِ يَبْقَى فِي الْقَلْبِ، وَيَطُولُ بَقَاؤُهُ. كَمَا يَبْقَى أَثَرُ ذَوْقِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْقُوَّةِ الذَّائِقَةِ. وَيَبْقَى عَلَى الْبَدَنِ وَالرُّوحِ. فَإِنَّ الذَّوْقَ مُبَاشَرَةٌ- كَمَا تَقَدَّمَ- وَالْوَجْدُ عِنْدَ الشَّيْخِ لَهِيبٌ يَتَأَجَّجُ مِنْ شُهُودِ عَارِضٍ مُقْلِقٍ فَهُوَ عِنْدَهُ مِنَ الْعَوَارِضِ، كَالْهَيَمَانِ وَالْقَلَقِ. فَإِنَّهُ يَنْشَأُ مِنْ مُكَاشَفَةٍ لَا تَدُومُ. فَلِذَلِكَ جَعَلَهُ أَبْقَى مِنَ الْوَجْدِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَأَجْلَى مِنَ الْبَرْقِ فَإِنَّ الْبَرْقَ أَسْرَعُ انْقِضَاءً، وَكَشْفُهُ دُونَ كَشْفِ الذَّوْقِ. وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَلَكِنَّ جَعْلَهُ الذَّوْقَ أَبْقَى مِنَ الْوَجْدِ وَأَعْلَى مِنْهُ: فِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَعَلَ الْوَجْدَ فَوْقَ الذَّوْقِ وَأَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْهُ، فَإِنَّهُ قَالَ ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِي الذَّوْقِ: ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ، فَوَجْدُ حَلَاوَةِ الشَّيْءِ الْمَذُوقِ: أَخَصُّ مِنْ مُجَرَّدِ ذَوْقِهِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْحَلَاوَةُ أَخَصَّ مِنَ الطَّعْمِ: قَرَنَ بِهَا الْوَجْدَ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ مِنْ مُجَرَّدِ الذَّوْقِ. فَقَرَنَ الْأَخَصَّ بِالْأَخَصِّ، وَالْأَعَمَّ بِالْأَعَمِّ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِوَجْدِ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ: الْوَجْدَ الَّذِي هُوَ لَهِيبُ الْقَلْبِ. فَإِنَّ ذَلِكَ مَصْدَرُ وَجَدَ بِالشَّيْءِ وَجْدًا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ الثُّبُوتُ. فَمَصْدَرُ هَذَا الْفِعْلِ: الْوُجُودُ وَالْوِجْدَانُ، فَوَجَدَ الشَّيْءَ يَجِدُهُ وِجْدَانًا: إِذَا حَصَلَ لَهُ وَثَبَتَ. كَمَا يَجِدُ الْفَاقِدُ الشَّيْءَ الَّذِي بَعُدَ مِنْهُ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} وقوله: {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} وقوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} وقوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} فَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ.
فَوِجْدَانُ الشَّيْءِ: ثُبُوتُهُ وَاسْتِقْرَارُهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ وِجْدَانٌ لَهُ. إِذْ يَمْتَنِعُ حُصُولُ هَذَا الذَّوْقِ مِنْ غَيْرِ وِجْدَانٍ. وَلَكِنَّ اصْطِلَاحَ كَثِيرٍ مِنَ الْقَوْمِ عَلَى أَنَّ الذَّائِقَ أَخَصُّ مِنَ الْوَاجِدِ. فَكَأَنَّهُ شَارَكَ الْوَاجِدَ فِي الْحُصُولِ، وَامْتَازَ عَنْهُ بِالذَّوْقِ. فَإِنَّهُ قَدْ يَجِدُ الشَّيْءَ وَلَا يَذُوقُهُ الذَّوْقَ التَّامَّ.
وَهَذَا لَيْسَ كَمَا قَالُوهُ. بَلْ وُجُودُ هَذِهِ الْحَقَائِقِ لِلْقَلْبِ: ذَوْقٌ لَهَا وَزِيَادَةٌ، وَثُبُوتٌ وَاسْتِقْرَارٌ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [دَرَجَاتُ الذَّوْقِ]:

.[الدَّرَجَةُ الْأُولَى: ذَوْقُ التَّصْدِيقِ طَعْمَ الْعِدَةِ]:

قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: ذَوْقُ التَّصْدِيقِ طَعْمَ الْعِدَةِ. فَلَا يَعْقِلُهُ ظَنٌّ، وَلَا يَقْطَعُهُ أَمَلٌ. وَلَا تَعُوقُهُ أُمْنِيَةٌ.
يُرِيدُ: أَنَّ الْعَبْدَ الْمُصَدِّقَ إِذَا ذَاقَ طَعْمَ الْوَعْدِ مِنَ اللَّهِ عَلَى إِيمَانِهِ وَتَصْدِيقِهِ وَطَاعَتِهِ: ثَبَتَ عَلَى حُكْمِ الْوَعْدِ وَاسْتَقَامَ.
فَلَمْ يَعْقِلْهُ ظَنٌّ أَيْ لَمْ يَحْبِسْهُ ظَنٌّ، تَقُولُ: عَقَلْتُ فُلَانًا عَنْ كَذَا، أَيْ مَنَعْتُهُ عَنْهُ وَصَدَدْتُهُ، وَمِنْهُ عِقَالُ الْبَعِيرِ، لِأَنَّهُ يَحْبِسُهُ عَنِ الشُّرُودِ. وَمِنْهُ: الْعَقْلُ. لِأَنَّهُ يَحْبِسُ صَاحِبَهُ عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَحْسُنُ وَلَا يَجْمُلُ. وَمِنْهُ: عَقَلْتَ الْكَلَامَ، وَعَقَلْتَ مَعْنَاهُ: إِذَا حَبَسْتَهُ فِي صَدْرِكَ وَحَصَّلْتَهُ فِي قَلْبِكَ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا عِنْدَكَ. وَمِنْهُ: الْعَقْلُ لِلدِّيَةِ. لِأَنَّهَا تَمْنَعُ آخِذَهَا مِنَ الْعُدْوَانِ عَلَى الْجَانِي وَعَصَبَتِهِ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ بِوَعْدِ اللَّهِ يَمْنَعُ الذَّائِقَ أَنْ يَحْبِسَهُ ظَنٌّ عَنِ الْجِدِّ فِي الطَّلَبِ، وَالسَّيْرِ إِلَى رَبِّهِ. وَالظَّنُّ هُوَ الْوُقُوفُ عَنِ الْجَزْمِ بِصِحَّةِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، بِحَيْثُ لَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ جَانِبُ التَّصْدِيقِ.
وَكَأَنَّ الشَّيْخَ يَقُولُ: الذَّائِقُ بِالتَّصْدِيقِ طَعْمَ الْوَعْدِ، لَا يُعَارِضُهُ ظَنٌّ يَعْقِلُهُ عَنْ صِدْقِ الطَّلَبِ، وَيَحْبِسُ عَزِيمَتَهُ عَنِ الْجِدِّ فِيهِ. وَفِي حَدِيثِ سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ قَوْلُهُ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَيْ مُقِيمٌ عَلَى التَّصْدِيقِ بِوَعْدِكَ، وَعَلَى الْقِيَامِ بِعَهْدِكَ، بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِي.
وَالْحَامِلُ عَلَى هَذِهِ الْإِقَامَةِ وَالثَّبَاتِ: ذَوْقُ طَعْمِ الْإِيمَانِ، وَمُبَاشَرَتِهِ لِلْقَلْبِ. وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ مَجَازًا- لَا حَقِيقَةً- لَمْ يَثْبُتِ الْقَلْبُ عَلَى حُكْمِ الْوَعْدِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ. وَلَا يُفِيدُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِلَّا ذَوْقُ طَعْمِ الْإِيمَانِ. وَثَوْبُ الْعَارِيَةِ لَا يُجَمِّلُ لَابِسَهُ. وَلَا سِيَّمَا إِذَا عَرَفَ النَّاسُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ، وَأَنَّهُ عَارِيَةٌ عَلَيْهِ، كَمَا قِيلَ:
ثَوْبُ الرِّيَاءِ يَشِفُّ عَمَّا تَحْتَهُ ** فَإِذَا اشْتَمَلْتَ بِهِ فَإِنَّكَ عَارِي

وَكَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ يُكْثِرُ التَّلْبِيَةَ فِي إِحْرَامِهِ، ثُمَّ يَقُولُ لَبَّيْكَ، لَوْ كَانَ رِيَاءً لَاضْمَحَلَّ وَقَدْ نَفَى اللَّهُ تَعَالَى الْإِيمَانَ عَمَّنِ ادَّعَاهُ. وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ ذَوْقٌ. فَقَالَ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}.
فَهَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ، وَلَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ. لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ بَاشَرَ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، فَذَاقَ حَلَاوَتَهُ وَطَعْمَهُ. وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ كُفَّارًا. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَثْبَتَ لَهُمُ الْإِسْلَامَ بِقوله: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} وَلَمْ يُرِدْ: قُولُوا بِأَلْسِنَتِكُمْ، مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ. فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِهِمْ آمَنَّا وَقَوْلِهِمْ أَسْلَمْنَا، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَذُوقُوا طَعْمَ الْإِيمَانِ، قَالَ: لَمْ تُؤْمِنُوا. وَوَعَدَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مَعَ ذَلِكَ- عَلَى طَاعَتِهِمْ أَنْ لَا يُنْقِصَهُمْ مِنْ أُجُورِ أَعْمَالِهِمْ شَيْئًا.
ثُمَّ ذَكَرَ أَهْلَ الْإِيمَانِ الَّذِينَ ذَاقُوا طَعْمَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَبِرَسُولِهِ. ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا فِي إِيمَانِهِمْ. وَإِنَّمَا انْتَفَى عَنْهُمُ الرَّيْبُ: لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ بَاشَرَ قُلُوبَهُمْ. وَخَالَطَتْهَا بَشَاشَتُهُ. فَلَمْ يَبْقَ لِلرَّيْبِ فِيهِ مَوْضِعٌ.
وَصَدَّقَ ذَلِكَ الذَّوْقَ: بَذْلُهُمْ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَيْهِمْ فِي رِضَا رَبِّهِمْ تَعَالَى. وَهُوَ أَمْوَالُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ. وَمِنَ الْمُمْتَنِعِ: حُصُولُ هَذَا الْبَذْلِ مِنْ غَيْرِ ذَوْقِ طَعْمِ الْإِيمَانِ، وَوُجُودِ حَلَاوَتِهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِصِدْقِ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ. كَمَاقَالَ الْحَسَنُ لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي، وَلَا بِالتَّحَلِّي، وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ، وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ.
فَالذَّوْقُ وَالْوَجْدُ: أَمْرٌ بَاطِنٌ، وَالْعَمَلُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَمُصَدِّقٌ لَهُ. كَمَا أَنَّ الرَّيْبَ وَالشَّكَّ وَالنِّفَاقَ: أَمْرٌ بَاطِنٌ. وَالْعَمَلُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَمُصَدِّقٌ لَهُ. فَالْأَعْمَالُ ثَمَرَاتُ الْعُلُومِ وَالْعَقَائِدِ. فَالْيَقِينُ: يُثْمِرُ الْجِهَادَ، وَمَقَامَاتِ الْإِحْسَانِ. فَعَلَى حَسَبِ قُوَّتِهِ تَكُونُ ثَمَرَتُهُ وَنَتِيجَتُهُ. وَالرَّيْبُ وَالشَّكُّ: يُثْمِرُ الْأَعْمَالَ الْمُنَاسِبَةَ لَهُ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَوْلُهُ وَلَا يَقْطَعُهُ أَمَلٌ أَيْ مِنْ عَلَامَاتِ الذَّوْقِ: أَنْ لَا يَقْطَعَ صَاحِبَهُ عَنْ طَلَبِهِ أَمْرُ دُنْيَا، وَطَمَعٌ فِي غَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِهَا. فَإِنَّ الْأَمَلَ وَالطَّمَعَ يَقْطَعَانِ طَرِيقَ الْقَلْبِ فِي سَيْرِهِ إِلَى مَطْلُوبِهِ.
وَلَمْ يَقُلِ الشَّيْخُ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ أَمَلٌ، بَلْ قَالَ: لَا يَقْطَعُهُ أَمَلٌ. فَإِنَّ الْأَمَلَ إِذَا قَامَ بِهِ وَلَمْ يَقْطَعْهُ: لَمْ يَضُرَّهُ، وَإِنْ عَوَّقَ سَيْرَهُ بَعْضَ التَّعْوِيقِ. وَإِنَّمَا الْبَلَاءُ فِي الْأَمَلِ الْقَاطِعِ لِلْقَلْبِ عَنْ سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ.
وَعِنْدَ الطَّائِفَةِ: أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ، فَإِرَادَتُهُ: أَمَلٌ قَاطِعٌ، كَائِنًا مَا كَانَ. فَمَنْ كَانَ ذَلِكَ أَمَلُهُ، وَمُنْتَهَى طَلَبِهِ: فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَوْقِ الْإِيمَانِ. فَإِنَّهُ مَنْ ذَاقَ حَلَاوَةَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، وَالْأُنْسِ بِهِ: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَمَلٌ فِي غَيْرِهِ. وَإِنَّ تَعَلَّقَ أَمَلُهُ بِسِوَاهُ، فَهُوَ لِإِعَانَتِهِ عَلَى مَرْضَاتِهِ وَمَحَابِّهِ. فَهُوَ يُؤَمِّلُهُ لِأَجْلِهِ، وَلَا يُؤَمِّلُهُ مَعَهُ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا الَّذِي يَقْطَعُ بِهِ الْعَبْدُ هَذَا الْأَمَلَ؟
قُلْتُ: قُوَّةُ رَغْبَتِهِ فِي الْمَطْلَبِ الْأَعْلَى، الَّذِي لَيْسَ شَيْءٌ أَعْلَى مِنْهُ. وَمَعْرِفَتُهُ بِخِسَّةِ مَا يُؤَمَّلُ دُونَهُ، وَسُرْعَةِ ذَهَابِهِ. فَيُوشِكُ انْقِطَاعُهُ. وَأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ كَخَيَالِ طَيْفٍ، أَوْ سَحَابَةِ صَيْفٍ. فَهُوَ ظِلٌّ زَائِلٌ، وَنَجْمٌ قَدْ تَدَلَّى لِلْغُرُوبِ. فَهُوَ عَنْ قَرِيبٍ آفِلٌ. قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟ إِنَّمَا أَنَا كَرَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا وَقَالَ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يُدْخِلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ: بِمَ تَرْجِعُ؟ فَشَبَّهَ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ الْآخِرَةِ بِمَا يَعْلَقُ عَلَى الْإِصْبَعِ مِنَ الْبَلَلِ حِينَ تُغْمَسُ فِي الْبَحْرِ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا أُوتِيهَا رَجُلٌ، ثُمَّ جَاءَهُ الْمَوْتُ: لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يَسُرُّهُ. ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَإِذَا لَيْسَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ.
وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ- أَوْ غَيْرُهُ-: نَعِيمُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهِ فِي جَنْبِ نَعِيمِ الْآخِرَةِ: أَقَلُّ مِنْ ذَرَّةٍ فِي جَنْبِ جِبَالِ الدُّنْيَا.
وَمَنْ حَدَّقَ عَيْنَ بَصِيرَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ.
فَكَيْفَ يَلِيقُ بِصَحِيحِ الْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ: أَنْ يَقْطَعَهُ أَمَلٌ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ الْحَقِيرِ عَنْ نَعِيمٍ لَا يَزُولُ، وَلَا يَضْمَحِلُّ؟ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقْطَعَهُ عَنْ طَلَبِ مَنْ نِسْبَةُ هَذَا النَّعِيمِ الدَّائِمِ إِلَى نَعِيمِ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالْأُنْسِ بِهِ، وَالْفَرَحِ بِقُرْبِهِ، كَنِسْبَةِ نَعِيمِ الدُّنْيَا إِلَى نَعِيمِ الْجَنَّةِ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} فَيَسِيرٌ مِنْ رِضْوَانِهِ- وَلَا يُقَالُ لَهُ يَسِيرٌ- أَكْبَرُ مِنَ الْجَنَّاتِ وَمَا فِيهَا.
وَفِي حَدِيثِ الرُّؤْيَةِ فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ إِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ- سُبْحَانَهُ- لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى شَيْءٍ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، حَتَّى يَتَوَارَى عَنْهُمْ.
فَمَنْ قَطَعَهُ عَنْ هَذَا أَمَلٌ، فَقَدْ فَازَ بِالْحِرْمَانِ، وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِغَايَةِ الْخُسْرَانِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. وَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ.
قَوْلُهُ وَلَا تَعُوقُهُ أُمْنِيَّةٌ الْأُمْنِيَّةُ: هِيَ مَا يَتَمَنَّاهُ الْعَبْدُ مِنَ الْحُظُوظِ. وَجَمْعُهَا أَمَانِيٌّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَمَلِ أَنَّ الْأَمَلَ يَتَعَلَّقُ بِمَا يُرْجَى وُجُودُهُ. وَالْأُمْنِيَّةُ: قَدْ تَتَعَلَّقُ بِمَا لَا يُرْجَى حُصُولُهُ. كَمَا يَتَمَنَّى الْعَاجِزُ الْمَرَاتِبَ الْعَالِيَةَ.
وَالْأَمَانِيُّ الْبَاطِلَةُ: هِيَ رُءُوسُ أَمْوَالِ الْمَفَالِيسِ. بِهَا يَقْطَعُونَ أَوْقَاتَهُمْ وَيَلْتَذُّونَ بِهَا، كَالْتِذَاذِ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِالْمُسْكِرِ، أَوْ بِالْخَيَالَاتِ الْبَاطِلَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «الْمَرْفُوعِ الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ».
وَلَا يَرْضَى بِالْأَمَانِيِّ عَنِ الْحَقَائِقِ إِلَّا ذَوُو النُّفُوسِ الدَّنِيئَةِ السَّاقِطَةِ. كَمَا قِيلَ:
وَاتْرُكْ مُنَى النَّفْسِ لَا تَحْسَبْهُ يُشْبِعُهَا ** إِنَّ الْمُنَى رَأْسُ أَمْوَالِ الْمَفَالِيسِ

وَأُمْنِيَّةُ الرَّجُلِ تَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ هِمَّتِهِ وَخِسَّتِهَا. وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ إِنِّي لَا أَنْظُرُ إِلَى كَلَامِ الْحَكِيمِ، وَإِنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى هِمَّتِهِ وَالْعَامَّةُ تَقُولُ: قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ. وَالْعَارِفُونَ يَقُولُونَ: قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يَطْلُبُ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: ذَوْقُ الْإِرَادَةِ طَعْمَ الْأُنْسِ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: ذَوْقُ الْإِرَادَةِ طَعْمَ الْأُنْسِ. فَلَا يَعْلَقُ بِهِ شَاغِلٌ. وَلَا يُفْسِدُهُ عَارِضٌ. وَلَا تُكَدِّرُهُ تَفْرِقَةٌ.
الْإِرَادَةُ وَصْفُ الْمُرِيدِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا: أَنَّ الْأُولَى وَصْفُ حَالِ الْعَابِدِ الَّذِي ذَاقَ بِتَصْدِيقِهِ طَعْمَ وَعْدِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، فَجَدَّ فِي الْعِبَادَةِ. وَأَعْمَالِ الْبِرِّ، لِثِقَتِهِ بِالْوَعْدِ عَلَيْهَا. وَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ: ذَاقَتْ إِرَادَتُهُ طَعْمَ الْأُنْسِ. فَهِيَ حَالُ الْمُرِيدِ.
وَلِهَذَا عَلِقَ حَالُ صَاحِبِ الدَّرَجَةِ الْأُولَى: بِالْوَعْدِ الْجَمِيلِ. وَعَلِقَ حَالُ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ: بِالْأُنْسِ بِاللَّهِ. وَالْأُنْسُ بِهِ سُبْحَانَهُ أَعْلَى مِنَ الْأُنْسِ بِمَا يَرْجُوهُ الْعَابِدُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ. فَإِذَا ذَاقَ الْمُرِيدُ طَعْمَ الْأُنْسِ جَدَّ فِي إِرَادَتِهِ، وَاجْتَهَدَ فِي حِفْظِ أُنْسِهِ، وَتَحْصِيلِ الْأَسْبَابِ الْمُقَوِّيَةِ لَهُ.
فَلَا يَعْلَقُ بِهِ شَاغِلٌ: أَيْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ يَشْغَلُهُ عَنْ سُلُوكِهِ، وَسَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ، لِشِدَّةِ طَلَبِهِ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ أُنْسُهُ، الَّذِي قَدْ ذَاقَ طَعْمَهُ، وَتَلَذَّذَ بِحَلَاوَتِهِ.
وَالْأُنْسُ بِاللَّهِ: حَالَةٌ وِجْدَانِيَّةٌ. وَهِيَ مِنْ مَقَامَاتِ الْإِحْسَانِ، تَقْوَى بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: دَوَامُ الذِّكْرِ، وَصِدْقُ الْمَحَبَّةِ، وَإِحْسَانُ الْعَمَلِ.
وَقُوَّةُ الْأُنْسِ وَضَعْفُهُ: عَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الْقُرْبِ. فَكُلَّمَا كَانَ الْقَلْبُ مِنْ رَبِّهِ أَقْرَبَ، كَانَ أُنْسُهُ بِهِ أَقْوَى. وَكُلَّمَا كَانَ مِنْهُ أَبْعَدَ، كَانَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ أَشَدَّ.
قَوْلُهُ وَلَا يُفْسِدُهُ عَارِضٌ الْعَارِضُ الْمُفْسِدُ: هُوَ الَّذِي يَعْذِلُ الْمُحِبَّ، وَيَلُومُهُ عَلَى النَّشَاطِ فِي رِضَا مَحْبُوبِهِ وَطَاعَتِهِ، وَيَدْعُوهُ إِلَى الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ، وَالْوُقُوفِ مَعَهُ دُونَ مَطْلَبِهِ الْعَالِي. فَهُوَ كَالَّذِي يَجِيءُ عَرَضًا يَمْنَعُ الْمَارَّ فِي طَرِيقِهِ عَنِ الْمُرُورِ، وَيَلْفِتُهُ عَنْ جِهَةِ مَقْصِدِهِ إِلَى غَيْرِهَا.
وَهَذَا الْعَارِضُ عِنْدَ الْقَوْمِ: هُوَ إِرَادَةُ السِّوَى. فَإِنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ فَهُوَ عَارِضٌ. وَإِرَادَةُ السِّوَى: تُوقِفُ السَّالِكَ، وَتُنَكِّسُ الطَّالِبَ، وَتَحْجُبُ الْوَاصِلَ. فَإِيَّاكَ وَإِرَادَةَ السِّوَىوَإِنْ عَلَا. فَإِنَّكَ تُحْجَبُ عَنِ اللَّهِ بِقَدْرِإِرَادَتِكَ لِغَيْرِهِ. قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ عِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} وقال تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وقال تَعَالَى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى}.
قَوْلُهُ وَلَا تُكَدِّرُهُ تَفْرِقَةٌ الْكَدَرُ: ضِدُّ الصَّفَاءِ. وَالتَّفْرِقَةُ: ضِدُّ الْجَمْعِيَّةِ. وَالْجَمْعِيَّةُ: هِيَ جَمْعُ الْقَلْبِ وَالْهِمَّةِ عَلَى اللَّهِ بِالْحُضُورِ مَعَهُ بِحَالِ الْأُنْسِ، خَالِيًا مِنْ تَفْرِقَةِ الْخَوَاطِرِ. وَالتَّفْرِقَةُ مِنْ أَعْظَمِ مُكَدِّرَاتِ الْقَلْبِ. وَهِيَ تُزِيلُ الصَّفَاءَ الَّذِي أَثْمَرَهُ لَهُ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالْإِحْسَانُ. فَإِنَّ الْقَلْبَ يَصْفُو بِذَلِكَ. فَتَجِيءُ التَّفْرِقَةُ. فَتُكَدِّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الصَّفَاءَ، وَتُشَعِّثَ الْقَلْبَ. فَيَجِدُ الصَّادِقُ أَلَمَ ذَلِكَ الشَّعَثِ وَأَذَاهُ. فَيَجْتَهِدُ فِي لَمِّهِ، وَلَا يُلَمُّ شَعَثُ الْقُلُوبِ بِشَيْءٍ غَيْرِ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ. فَهُنَاكَ يُلَمُّ شَعَثُهُ، وَيَزُولُ كَدَرُهُ، وَيَصِحُّ سَفَرُهُ. وَيَجِدُ رُوحَ الْحَيَاةِ، وَيَذُوقُ طَعْمَ الْحَيَاةِ الْمَلَكِيَّةِ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: ذَوْقُ الِانْقِطَاعِ طَعْمَ الِاتِّصَالِ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: ذَوْقُ الِانْقِطَاعِ طَعْمَ الِاتِّصَالِ. وَذَوْقُ الْهِمَّةِ: طَعْمَ، الْجَمْعِ. وَذَوْقُ الْمُسَامَرَةِ: طَعْمَ الْعِيَانِ.
الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ، وَالَّتِي قَبْلَهَا: أَنَّ تِلْكَ بَقَاءٌ مَعَ الْأَحْوَالِ. وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ: خُرُوجٌ وَفَنَاءٌ عَنِ الْأَحْوَالِ. فَإِنَّ الْمُتَمَكِّنَ فِي حَالِ فَنَائِهِ عَنِ الْأَسْبَابِ- أَعْمَالًا كَانَتْ، أَوْ أَحْوَالًا- هُوَ الَّذِي يَجِدُ طَعْمَ الِاتِّصَالِ حَقِيقَةً. فَإِنَّهُ عَلَى حَسَبِ تَجَرُّدِهِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْأَسْبَابِ يَكُونُ اتِّصَالُهُ. وَعَلَى حَسَبِ الْتِفَاتِهِ إِلَيْهَا يَكُونُ انْقِطَاعُهُ. وَكُلَّمَا تَمَكَّنَ فِي جَمْعِ هَمِّهِ عَلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَجَدَ لَذَّةَ الْجَمْعِ عَلَيْهِ، وَذَاقَ طَعْمَ الْقُرْبِ مِنْهُ، وَالْأُنْسِ بِهِ.
فَالِانْقِطَاعُ عِنْدَ الْقَوْمِ: هُوَ أُنْسُ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ تَعَالَى، وَالِالْتِفَاتُ إِلَى مَا سِوَاهُ. وَالِاتِّصَالُ: تَجْرِيدُ التَّعَلُّقِ بِهِ وَحْدَهُ. وَالِانْقِطَاعُ عَمَّا سِوَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا. فَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ كَلَامِهِ.
فَقَوْلُهُ ذَوْقُ الِانْقِطَاعِ طَعْمَ الِاتِّصَالِ اسْتِعَارَةٌ، وَإِلَّا فَالذَّائِقُ هُوَ صَاحِبُ الِانْقِطَاعِ، لَا نَفْسَ الِانْقِطَاعِ. فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي ذَاقَ الِانْقِطَاعَ وَالِاتِّصَالَ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْمُرَادُ أَنَّ الْمُنْقَطِعَ هُوَ الْمَحْجُوبُ، وَالْمُتَّصِلَ هُوَ الْمُشَاهِدُ بِقَلْبِهِ، الْمُكَاشِفُ بِسِرِّهِ.
وَأَحْسَنُ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالِاتِّصَالِ: التَّعْبِيرُ بِالْقُرْبِ. فَإِنَّهَا الْعِبَارَةُ السَّدِيدَةُ الَّتِي ارْتَضَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
وَأَمَّا التَّعْبِيرُ بِالْوَصْلِ وَالِاتِّصَالِ: فَعِبَارَةٌ غَيْرُ سَدِيدَةٍ. يَتَشَبَّثُ بِهَا الزِّنْدِيقُ الْمُلْحِدُ، وَالصَّدِّيقُ الْمُوَحِّدُ. فَالْمُوَحِّدُ يُرِيدُ بِالِاتِّصَالِ الْقُرْبَ. وَبِالِانْفِصَالِ وَالِانْقِطَاعِ الْبُعْدَ. وَالْمُلْحِدُ يُرِيدُ بِهِ الْحُلُولَ تَارَةً وَالِاتِّحَادَ تَارَةً.
حَتَّى قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: الْمُنْقَطِعُ لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْقَطِعًا. بَلْ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِلًا، لَكِنَّهُ كَانَ غَائِبًا عَنِ الْمُشَاهَدَةِ. فَلَمَّا شَاهَدَ وَجَدَ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ مُنْقَطِعًا. بَلْ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِلًا.
قَالَ: وَلَيْسَ قَوْلُنَا لَمْ يَزَلْ مُتَّصِلًا بِسَدِيدٍ. فَإِنَّ الِاتِّصَالَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ. فَلَا الْمَحْجُوبُ مُنْقَطِعًا. وَلَا الْمُكَاشِفُ مُتَّصِلًا. وَإِنَّمَا هِيَ عِبَارَاتٌ لِلتَّقْرِيبِ وَالتَّفْهِيمِ. وَأَنْشَدَ فِي ذَلِكَ:
مَا بَالُ عِيسِكَ لَا يَقَرُّ قَرَارُهَا ** وَإِلَامَ ظِلُّكَ لَا يَنِي مُتَنَقِّلَا فَلَسَوْفَ تَعْلَمُ أَنَّ سَيْرَكَ لَمْ يَكُنْ ** إِلَّا إِلَيْكَ إِذَا بَلَغْتَ الْمَنْزِلَا

وَبِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ غَلُظَ حِجَابُهُمْ، وَكَثَفَتْ أَرْوَاحُهُمْ عَنْ هَذَا الشَّأْنِ. فَزَعَمُوا: أَنَّ الْقُرْبَ وَالْبُعْدَ وَالْأُنْسَ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْخَالِقِ سُبْحَانَهُ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ الْقُرْبُ مِنْ دَارِهِ وَجَنَّتِهِ بِالطَّاعَاتِ، وَأُنْسِ الْقَلْبِ بِمَا وَعَدَ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ، وَالْبُعْدُ ضِدُّ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْرُبُ مِنْ رَبِّهِ. وَلَا يَبْعُدُ عَنْهُ. وَلَا يَأْنَسُ بِهِ. وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ وَلَا يُحِبُّهُ. فَلَا يَصِحُّ تَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ بِهِ. فَسَارَ هَؤُلَاءِ مُغَرِّبِينَ. وَسَارَ أُولَئِكَ مُشَرِّقِينِ. كَمَا قِيلَ:
سَارَتْ مُشَرِّقَةً وَسِرْتُ مُغَرِّبًا ** شَتَّانَ بَيْنِ مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّبِ

وَمِصْبَاحُ الْمُوَحِّدِ السَّالِكِ عَلَى دَرْبِ الرَّسُولِ وَطَرِيقِهِ يَتَوَقَّدُ {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ}.
قَوْلُهُ وَذَوْقُ الْهِمَّةِ: طَعْمَ الْجَمْعِ جَعَلَ الْهِمَّةَ ذَائِقَةً: وَإِنَّمَا الذَّوْقُ لِصَاحِبِهَا، تَوَسُّعًا.
وَالْهِمَّةُ قَدْ عَبَّرَ عَنْهَا الشَّيْخُ فِيمَا تَقَدَّمَ بِأَنَّهَا مَا يَمْلِكُ الِانْبِعَاثَ إِلَى الْمَقْصُودِ صِرْفًا أَيْ حَالَةً وَصْفِيَّةً لَهَا سَطْوَةٌ وَمَلَكَةٌ، تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى الْمَقْصُودِ. وَتَبْعَثُهُ عَلَيْهِ بَعْثًا لَا يُخَالِطُهُ غَيْرُهُ.
فَالْهِمَّةُ عِنْدَهُمْ: طَلَبُ الْحَقِّ، مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى غَيْرِهِ. وَالْجَمْعُ شُهُودُ الْفَرْدَانِيَّةِ الَّتِي تَفْنَى فِيهَا رُسُومُ الْمُشَاهِدِ. وَهَذَا جَمْعٌ فِي الرُّبُوبِيَّةِ.
وَأَعْلَى مِنْهُ: الْجَمْعُ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَهُوَ جَمْعُ قَلْبِهِ وَهَمِّهِ وَسِرِّهِ عَلَى مَحْبُوبِهِ وَمَرَاضِيهِ وَمُرَادِهِ مِنْهُ. فَهُوَ عُكُوفُ الْقَلْبِ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. لَا يَلْتَفِتُ عَنْهُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً. فَإِذَا ذَاقَتِ الْهِمَّةُ طَعْمَ هَذَا الْجَمْعِ: اتَّصَلَ اشْتِيَاقُ صَاحِبِهَا، وَتَأَجَّجَتْ نِيرَانُ الْمَحَبَّةِ وَالطَّلَبِ فِي قَلْبِهِ. وَيَجِدُ صَبْرَهُ عَنْ مَحْبُوبِهِ مِنْ أَعْظَمِ كَبَائِرِهِ. كَمَا قِيلَ:
وَالصَّبْرُ يُحْمَدُ فِي الْمُوَاطِنِ كُلِّهَا ** إِلَّا عَلَيْكَ فَإِنَّهُ لَا يُحْمَدُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ إِنِّي لَا أَنْظُرُ إِلَى كَلَامِ الْحَكِيمِ. وَإِنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى هِمَّتِهِ.

فَلِلَّهِ هِمَّةُ نَفْسٍ قَطَعَتْ جَمِيعَ الْأَكْوَانِ، وَسَارَتْ فَمَا أَلْقَتْ عَصَا السَّيْرِ إِلَّا بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ. تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَسَجَدَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ سَجْدَةَ الشُّكْرِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ. فَلَمْ تَزَلْ سَاجِدَةً حَتَّى قِيلَ لَهَا {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}.
فَسُبْحَانَ مَنْ فَاوَتَ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي هِمَمِهِمْ، حَتَّى تَرَى بَيْنَ الْهِمَّتَيْنِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ. بَلْ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ أَسْفَلِ سَافِلِينَ وَأَعْلَى عِلِّيِّينَ. وَتِلْكَ مَوَاهِبُ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
قَوْلُهُ وَذَوْقُ الْمُسَامَرَةِ: طَعْمَ الْعِيَانِ مُرَادُهُمْ بِالْمُسَامَرَةِ: مُنَاجَاةُ الْقَلْبِ رَبَّهَ، وَإِنْ سَكَتَ اللِّسَانُ، فَلَذَّةُ اسْتِيلَاءِ ذِكْرِهِ تَعَالَى، وَمَحَبَّتِهِ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ، وَحُضُورِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأُنْسِهِ بِهِ، وَقُرْبِهِ مِنْهُ، حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ يُخَاطِبُهُ وَيُسَامِرُهُ، وَيَعْتَذِرُ إِلَيْهِ تَارَةً، وَيَتَمَلَّقُهُ تَارَةً، وَيُثْنِي عَلَيْهِ تَارَةً، حَتَّى يَبْقَى الْقَلْبُ نَاطِقًا بِقَوْلِهِ: أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ لَهُ بِذَلِكَ. بَلْ يَبْقَى هَذَا حَالًا لَهُ وَمَقَامًا. وَلَا يُنْكَرُ وُصُولُ الْقَوْمِ إِلَى هَذَا. فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِذَا بَلَغَ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ بِحَيْثُ يَكُونُ كَأَنَّهُ يَرَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ. فَهَكَذَا مُخَاطَبَتُهُ وَمُنَاجَاتُهُ لَهُ.
لَكِنَّ الْأَوْلَى الْعُدُولُ عَنْ لَفْظِ الْمُسَامَرَةِ إِلَى الْمُنَاجَاةِ فَإِنَّهُ اللَّفْظُ الَّذِي اخْتَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي هَذَا. وَعَبَّرَ بِهِ عَنْ حَالِ الْعَبْدِ بِقَوْلِهِ إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ. فَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ».
فَلَا تَعْدِلْ عَنْ أَلْفَاظِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَإِنَّهَا مَعْصُومَةٌ، وَصَادِرَةٌ عَنْ مَعْصُومٍ، وَالْإِجْمَالُ وَالْإِشْكَالُ فِي اصْطِلَاحَاتِ الْقَوْمِ وَأَوْضَاعِهِمْ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.